كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فصل: وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ فِي نُقْصَانِ الْعَدَدِ وَنُقْصَانِ الصِّفَةِ فَرْعَان:
أحدهما: أَنْ يَكْمُلَ عَدَدُهُمْ وَتُكْمُلَ صِفَةُ بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ، كَأَرْبَعَةٍ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا وَفِيهِمْ عَبْدٌ، أَوْ فَاسِقٌ وَبَاقِيهِمْ عُدُولٌ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ نُقْصَانَ الْعَدَدِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ فَهُوَ أَوْلَى، وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ مُوجِبٌ الْحَدَّ فَفِي هَذَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ الْأَصَحُّ، أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى جَمِيعِهِمْ: لِقُوَّةِ الشَّهَادَةِ بِكَمَالِ الْعَدَدِ وَبِكَمَالِ صِفَةِ الْأَكْثَرِينَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُحَدُّ جَمِيعُهُمْ لِرَدِّ شَهَادَتِهِمْ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: يُحَدُّ مَنْ نَقَصَتْ صِفَتُهُ بِالرِّقِّ وَالْفِسْقِ، وَلَا يُحَدُّ مَنْ كَمُلَتْ صِفَتُهُ بِالْعَدَالَةِ: لِلُحُوقِ الظِّنَّةِ بِالْفَاسِقِ، وَانْتِفَائِهَا عَنِ الْعَدْلِ. وَالْفَرْعُ الثَّانِي: أَنْ يَكْمُلَ عَدَدُهُمْ وَتَكْمُلَ صِفَتُهُمْ فَتُرَدُّ شَهَادَتُهُمْ، فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تُرَدَّ لِتَكَاذُبٍ فِيهَا وَتَعَارُضٍ، وَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ اثْنَانِ مِنْهُمْ أَنَّهُ زَنَا بِهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِبَغْدَادَ، وَيَشْهَدُ الْآخَرَانِ أَنَّهُ زَنَا بِهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِالْبَصْرَةِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ رَدَّ الشُّهُودِ مِنْ غَيْرِ تَكَاذُبٍ مُوجِبٌ الْحَدَّ، فَوَجَبَ بِهِ مَعَ التَّكَاذُبِ أَوْلَى. وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ، فَفِي رَدِّهِمْ بِالتَّكَاذُبِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: يُحَدُّونَ جَمِيعًا لِلْقَطْعِ بِالْكَذِبِ فِي شَهَادَتِهِمْ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُحَدُّونَ جَمِيعًا: لِأَنَّ الْكَذِبَ لَمْ يَتَعَيَّنْ فِي إِحْدَى الْجِهَتَيْنِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يُحَدَّ الْأَخِيرَانِ: لِتَقَدُّمِ إِكْذَابِ الْأَوَّلَيْنِ لَهُمَا قَبْلَ شَهَادَتِهِمَا، وَلَا يُحَدُّ الْأَوَّلَانِ: لِحُدُوثِ إِكْذَابِ الْآخَرَيْنِ لَهُمَا بَعْدَ شَهَادَتِهِمَا، وَهَذَا صَحِيحٌ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُمْ: لِاخْتِلَافِ الزِّنَا مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى وُجُودِهِ مِنْهُمَا، وَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ اثْنَانِ مِنْهُمْ أَنَّهُ زَنَا بِهَا فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَيَشْهَدُ الْآخَرَانِ أَنَّهُ زَنَا بِهَا فِي يَوْمِ السَّبْتِ، أَوْ يَشْهَدُ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَا بِهَا فِي الدَّارِ، وَيَشْهَدُ آخَرَانِ أَنَّهُ زَنَا بِهَا فِي الْبَيْتِ، فَلَيْسَ فِي هَذَا تَكَاذُبٌ: لِأَنَّهُمَا فِعْلَانِ لَمْ تَكْمُلِ الشَّهَادَةُ بِأَحَدِهِمَا فَلَمْ يُحَدَّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ. فَأَمَّا حَدُّ الشُّهُودِ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ نُقْصَانَ الْعَدَدِ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْحَدِّ فَهَذَا أَوْلَى. وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ، فَفِي وُجُوبِهِ هَاهُنَا وَجْهَان:
أحدهما: أَنَّهُ يَجِبُ الْحَدُّ عَلَيْهِمْ: لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَمْ تُكْمَلْ بِهِمْ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا حَدَّ عَلَيْهِمْ: لِكَمَالِ الشَّهَادَةِ بِالزِّنَا وَإِنِ اخْتَلَفَتْ، فَصَارَتْ كَامِلَةً فِي سُقُوطِهِ الْعِفَّةُ وَإِنْ لَمْ تُكْمَلْ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: مَا اخْتُلِفَ فِي رَدِّ شَهَادَتِهِمْ بِهِ، وَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ اثْنَانِ مِنْهُمْ أَنَّهُ أَكْرَهَهَا عَلَى الزِّنَا، وَيَشْهَدُ الْآخَرَانِ أَنَّهَا طَاوَعَتْهُ عَلَى الزِّنَا، فَلَا حَدَّ عَلَى الْمَرْأَةِ: لِأَنَّهَا تَحَدُّ بِالْمُطَاوَعَةِ دُونَ الْإِكْرَاهِ، وَلَمْ تَكْمُلِ الشَّهَادَةُ عَلَيْهَا بِالْمُطَاوَعَةِ، فَسَقَطَ الْحَدُّ عَنْهَا. وَأَمَّا الرَّجُلُ فَفِي وُجُوبِ حَدِّهِ بِشَهَادَتِهِمْ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ فِي جَامِعِهِ. أَحَدُهُمَا: لَا يُحَدُّ: لِأَنَّ اخْتِلَافَ الصِّفَةِ كَاخْتِلَافِ الْفِعْلِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُحَدُّ: لِاتِّفَاقِهِمْ فِي الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ بِزِنًا وَاحِدٍ يُوجِبُ الْحَدَّ، وَلَيْسَ فِيهَا تَعَارُضٌ: لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ يَكُونُ فِي أَوَّلِ الْفِعْلِ، وَالْمُطَاوَعَةَ فِي آخِرِهِ. فَعَلَى هَذَا: إِنْ حُكِمَ بِشَهَادَتِهِمْ فِي حَدِّ الرَّجُلِ، لَمْ يُحَدُّوَا فِي حَقِّ الرَّجُلِ وَلَا فِي الْمَرْأَةِ لِثُبُوتِهَا، وَإِنْ لَمْ يُحْكَمْ بِشَهَادَتِهِمْ فِي حَدِّ الرَّجُلِ، جَازَ الْحُكْمُ فِي وُجُوبِ حَدِّهِمْ، كَالضَّرْبِ الثَّانِي إِنْ قِيلَ: إِنَّهُمْ لَا يُحَدُّونَ إِذَا نَقَصُوا، فَهَؤُلَاءِ أَوْلَى أَنْ لَا يُحَدُّوا. وَإِنْ قِيلَ: يُحَدُّونَ إِذَا نَقَصُوا، فَفِي وُجُوبِ حَدِّ هَؤُلَاءِ وَجْهَانِ: فَإِنْ قُلْنَا: لَا حَدَّ عَلَيْهِمْ. فَلَا مَسْأَلَةَ. وَإِنْ قُلْنَا: الْحَدُّ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ حَدُّ شَاهِدِ الْإِكْرَاهِ فِي حَقِّ الرَّجُلِ دُونَ الْمَرْأَةِ، وَحَدُّ شَاهِدِ الْمُطَاوَعَةِ فِي حَقِّ الرَّجُلِ وَحَقِّ الْمَرْأَةِ، وَهُوَ قَذْفٌ لَهُمَا بِزِنًا وَاحِدٍ، فَهَلْ يَحُدُّونَ لَهُمَا حَدًّا وَاحِدًا أَوْ حَدَّيْنِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْقَدِيمُ: يُحَدُّونَ حَدًّا وَاحِدًا: لِأَنَّ الزِّنَا وَاحِدٌ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ الْجَدِيدُ: يُحَدُّونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَدًّا مُفْرَدًا: لِأَنَّهُ مَقْذُوفٌ فِي عَيْنِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فصل: وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الْمَسْطُورَةُ أَوَّلُهُ فَصُورَتُهَا فِي أَرْبَعَةٍ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا، ثُمَّ رَجَعَ أَحَدُهُمْ عَنْ شَهَادَتِهِ بَعْدَ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمْ، وَقَبْلَ إِقَامَةِ الْحَدِّ بِهَا، سَقَطَ الْحَدُّ عَنِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَحُدَّ مِنَ الشُّهُودِ الرَّاجِعُ عَنْ شَهَادَتِهِ: لِاعْتِرَافِهِ بِالْقَذْفِ، وَلَمْ يُحَدَّ مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: حُدَّ مَنْ رَجَعَ، وَمَنْ لَمْ يَرْجِعْ: إِلَّا أَنْ يَكُونَ رُجُوعُهُ بَعْدَ إِقَامَةِ الْحَدِّ، فَيُحَدُّ الرَّاجِعُ وَحْدَهُ: احْتِجَاجًا بِأَنَّ نُقْصَانَ الْعَدَدِ فِي الِانْتِهَاءِ كَنُقْصَانِهِ فِي الِابْتِدَاءِ فِي سُقُوطِ حَدِّ الزِّنَا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بِمَثَابَتِهِ فِي وُجُوبِ حَدِّ الْقَذْفِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: هُوَ أَنَّ مَنْ وَجَبَ الْحَدُّ بِشَهَادَتِهِ لَمْ يُحَدَّ إِذَا أَقَامَ عَلَى شَهَادَتِهِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَرْجِعْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَلِأَنَّ نُقْصَانَ الْعَدَدِ بَعْدَ كَمَالِهِ لَا يُوجِبُ حَدَّ مَنْ بَقِيَ، كَمَا لَوْ مَاتَ بَعْضُهُمْ أَوْ فُسِّقَ قَبْلَ إِقَامَةِ الْحَدِّ. وَهَذَا أَلْزَمُ لِأَبِي حَنِيفَةَ: لِأَنَّهُ يَقُولُ: لَوْ مَاتَ أَحَدُهُمْ لَمْ يُحَدَّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ عِنْدَهُ، وَلَمْ يُحَدَّ الْبَاقُونَ مِنَ الشُّهُودِ، وَيُحَدُّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا، وَلَا يُحَدُّ الشُّهُودُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ نُقْصَانِ الْعَدَدِ مِنَ الِابْتِدَاءِ وَنُقْصَانِهِ فِي الِانْتِهَاءِ: أَنَّ التَّحَرُّزَ مِنْ نُقْصَانِهِ فِي الِابْتِدَاءِ مُمْكِنٌ، وَالتَّحَرُّزُ مِنْ نُقْصَانِهِ فِي الِانْتِهَاءِ غَيْرُ مُمْكِنٍ.
فصل: فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ حُكْمِ الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا إِذَا لَمْ يَجِبْ بِهَا حَدُّ الزِّنَا، وَفِي وُجُوبِ حَدِّ الْقَذْفِ عَلَى الشُّهُودِ أَوْ سُقُوطِهِ عَنْهُمْ عَلَى التَّرْتِيبِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ. فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِمْ، كَانُوا عَلَى عَدَالَتِهِمْ فِي سَمَاعِ شَهَادَتِهِمْ وَقَبُولِ خَبَرِهِمْ. وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْحَدَّ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ، لَمْ تُسْمَعْ شَهَادَتُهُمْ: لِأَنَّهُ لَا يُحَدُّ لِلْقَذْفِ إِلَّا قَاذِفٌ، وَالْقَاذِفُ لَا تُسْمَعُ شَهَادَتُهُ حَتَّى يَتُوبَ، وَبِذَلِكَ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَبِي بَكْرَةَ: تُبْ أَقْبَلْ شَهَادَتَكَ. فَأَمَّا قَبُولُ أَخْبَارِهِمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيِّ أَنَّ أَخْبَارَهُمْ مَقْبُولَةٌ: لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَبِلُوا رِوَايَاتِ أَبِي بَكْرَةَ، وَمَنْ حُدَّ مَعَهُ وَلَمْ يَقْبَلُوا شَهَادَتَهُمْ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَقْيَسُ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ أَخْبَارُهُمْ كَمَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ: لِأَنَّ مَا جُرِحَ فِي تَعْدِيلِ الشَّهَادَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْحُقُوقِ كَانَ أَوْلَى أَنْ يُجْرَحَ فِي تَعْدِيلِ الرِّوَايَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالدِّينِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِنْ رُجِمَ بِشَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ ثُمَّ رَجَعَ أَحَدُهُمْ سَأَلْتُهُ، فَإِنْ قَالَ: عَمَدْتُ أَنْ أَشْهَدَ بِزُورٍ مَعَ غَيْرِي لِيُقْتَلَ، فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ. وَإِنْ قَالَ: شَهَدْتُ وَلَا أَعْلَمُ عَلَيْهِ الْقَتْلَ أَوْ غَيْرَهُ. أُحْلِفَ وَكَانَ عَلَيْهِ رُبُعُ الدِّيَةِ وَالْحَدُّ، وَكَذَلِكَ إِنْ رَجَعَ الْبَاقُونَ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَحُدَّ بِشَهَادَتِهِمْ ثُمَّ رَجَعُوا عَنِ الشَّهَادَةِ، فَقَدْ صَارُوا بِالرُّجُوعِ قَذَفَةً وَيُحَدُّونَ، وَلَا يَخْلُو حَالُ مَا أُقِيمَ بِشَهَادَتِهِمْ مِنَ الْحَدِّ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ رَجْمًا، أَوْ جَلْدًا، فَإِنْ كَانَ رَجْمًا ضَمِنُوا بِالرُّجُوعِ نَفْسَ الْمَرْجُومِ، وَسُئِلُوا عَنْ شَهَادَتِهِمْ هَلْ عَمَدُوا الْكَذِبَ فِيهَا لِيُقْتَلَ أَوْ لَمْ يَعْمَدُوهُ؟ وَلَهُمْ فِي الْجَوَابِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَقُولُوا: أَخْطَأْنَا جَمِيعًا. فَعَلَيْهِمْ دِيَةُ الْخَطَأِ مُؤَجَّلَةٌ فِي أَمْوَالِهِمْ لَا عَلَى عَوَاقِلِهِمْ: لِأَنَّهَا عَنِ اعْتِرَافٍ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقُولُوا: عَمَدْنَا وَلَمْ نَعْلَمْ أَنَّهُ يُقْتَلُ وَظَنَنَّاهُ بِكْرًا. فَعَلَيْهِمْ دِيَةُ شِبْهِ الْعَمْدِ، وَلَا قَوَدَ، وَتَكُونُ فِي أَمْوَالِهِمْ دُونَ عَوَاقِلِهِمْ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَقُولُوا عَمَدْنَا لِيُقْتَلَ. فَعَلَيْهِمُ الْقَوَدُ، فَإِنْ عَفَا عَنْهُ فَدِيَةُ الْعَمْدِ الْمَحْضِ فِي أَمْوَالِهِمْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: عَلَيْهِمُ الدِّيَةُ دُونَ الْقَوَدِ، وَالْكَلَامُ مَعَهُ يَأْتِي فِي الشَّهَادَاتِ. وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَقُولُوا عَمَدَ بَعْضُنَا وَأَخْطَأَ بَعْضُنَا فَلَا قَوَدَ عَلَى الْعَامِدِ وَلَا عَلَى الْخَاطِئِ: لَكِنْ عَلَى الْعَامِدِ دِيَةُ الْعَمْدِ، وَعَلَى الْخَاطِئِ دِيَةُ الْخَطَأِ مُؤَجَّلَةٌ.
فصل: وَإِنْ كَانَ الْحَدُّ جَلْدًا فَلَمْ يُؤَثِّرِ الْجَلْدُ فِي بَدَنِهِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الشُّهُودِ. وَإِنْ أَثَّرَ فِي بَدَنِهِ فَأَنْهَرَ دَمًا وَأَحْدَثَ جُرْحًا، ضَمِنَهُ الشُّهُودُ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَضْمَنُونَ أَثَرَ الْجَلْدِ وَمَا حَدَثَ مِنْهُ، وَإِنْ ضَمِنُوا دِيَةَ النَّفْسِ فِي الرَّجْمِ: لِأَنَّ الشَّهَادَةَ أَوْجَبَتِ الرَّجْمَ فَضَمِنُوهُ، وَلَمْ تُوجِبْ أَثَرَ الْجَلْدِ فَلَمْ يَضْمَنُوهُ. وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّهَا جِنَايَةٌ حَدَثَتْ عَنْ شَهَادَتِهِمْ، فَوَجَبَ أَنْ تَلْزَمَهُمْ غُرْمُهَا كَالنَّفْسِ، وَلِأَنَّ مَا ضُمِّنَ بِهِ النَّفْسُ ضُمِنَ بِهِ مَا دُونَهَا كَالْمُبَاشِرَةِ. وَمَا اسْتُدِلَّ بِهِ غَيْرُ صَحِيحٍ: لِأَنَّ السَّرَايَةَ مَضْمُونَةٌ كَالْجِنَايَةِ، فَهَذَا حُكْمُ رُجُوعِهِمْ جَمِيعًا، فَأَمَّا إِذَا رَجَعَ أَحَدُهُمْ فَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فَيُنْظَرُ، فَإِنْ قَالَ: عَمَدْتُ وَعَمَدَ أَصْحَابِي. وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ دُونَهُمْ. وَإِنْ قَالَ: أَخْطَأْتُ. أَوْ قَالَ: عَمَدْتُ وَأَخْطَأَ أَصْحَابِي. فَعَلَيْهِ رُبُعُ الدِّيَةِ دُونَ الْقَوَدِ. وَلَوْ رَجَعَ اثْنَانِ وَجَبَ عَلَيْهِمَا نِصْفُ الدِّيَةِ. وَلَوْ رَجَعَ ثَلَاثَةٌ كَانَ عَلَيْهِمْ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ.
فصل: وَإِذَا شَهِدَ سِتَّةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَرُجِمَ، ثُمَّ رَجَعَ مِنْهُمْ وَاحِدٌ أَوِ اثْنَانِ، وَبَقِيَ بَعْدَ الرَّاجِعِ بَيِّنَةٌ كَامِلَةٌ، فَفِي ضَمَانِ الرَّاجِعِ وَجْهَان:
أحدهما: وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَرَوَاهُ الْبُوَيْطِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ: لِبَقَاءِ بَيِّنَةٍ يَجِبُ بِهَا الرَّجْمُ، فَصَارَ رُجُوعُهُ كَعَدَمِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: حَكَاهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: أَنَّ الرَّاجِعَ يُضْمَنُ مَعَ بَقَاءِ الْبَيِّنَةِ: لِأَنَّهُ رُجِمَ بِشَهَادَةِ جَمِيعِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَعَيَّنَ فِي الشَّهَادَةِ بَعْضَهُمْ. فَعَلَى هَذَا: إِنْ كَانَ الرَّاجِعُ مِنَ السِّتَّةِ وَاحِدًا فَعَلَيْهِ سُدُسُ الدِّيَةِ: لِأَنَّهُ وَاحِدٌ مِنْ سِتَّةٍ. وَلَوْ رَجَعَ اثْنَانِ، فَعَلَيْهِمَا ثُلُثُ الدِّيَةِ. وَلَكِنْ لَوْ رَجَعَ مِنَ السِّتَّةِ ثَلَاثَةٌ ضَمَنُوا، لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْمَذْهَبُ: لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ بَعْدَ رُجُوعِهِمْ بَيِّنَةٌ كَامِلَةٌ، وَفِي قَدْرِ مَا يَضْمَنُونَهُ وَجْهَان:
أحدهما: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ: عَلَى الثَّلَاثَةِ رُبُعُ الدِّيَةِ: لِأَنَّ الْبَاقِيَ مِنَ الْبَيِّنَةِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي:- وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَنْصُوصِ الْبُوَيْطِيِّ عَنِ الشَّافِعِيِّ- أَنَّ عَلَيْهِمْ نِصْفَ الدِّيَةِ: لِرُجُوعِ نِصْفِ الشُّهُودِ. وَلَوْ رَجَعَ مِنَ السِّتَّةِ أَرْبَعَةٌ، فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ: عَلَيْهِمْ نِصْفُ الدِّيَةِ اعْتِبَارًا بِعَدَدِ مَنْ بَقِيَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: عَلَيْهِمْ ثُلُثَا الدِّيَةِ اعْتِبَارًا بِعَدَدِ مَنْ رَجَعَ.
فصل: وَإِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا، وَشَهِدَ اثْنَانِ بِإِحْصَانِهِ، ثُمَّ رَجَعَ شَاهِدَا الْإِحْصَانِ دُونَ شُهُودِ الزِّنَا، فَفِي وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِمَا وَجْهَان:
أحدهما: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا: لِأَنَّهُ رُجِمَ بِالزِّنَا لَا بِالْإِحْصَانِ، فَلَمْ يَلْزَمْ شُهُودَ الْإِحْصَانِ ضَمَانٌ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ، وَحَكَاهُ أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ فِي جَامِعِهِ عَنِ الْمُزَنِيِّ أَنَّ عَلَيْهِمَا الضَّمَانَ: لِأَنَّهُ لَوْلَا شَهَادَتُهُمَا بِالْإِحْصَانِ لَمْ يُرْجَمْ. وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: إِنْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ بِالْإِحْصَانِ قَبْلَ الشَّهَادَةِ بِالزِّنَا لَمْ يَضْمَنُ شُهُودُ الْإِحْصَانِ، وَإِنْ كَانَتْ بَعْدَهَا ضَمِنُوا. وَلِقَوْلِهِ وَجْهٌ، فَعَلَى هَذَا: إِذَا ضُمِنَ شَاهِدَا الْإِحْصَانِ، فَفِي قَدْرِ الضَّمَانِ وَجْهَان:
أحدهما: ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ رِوَايَةِ الْمُزَنِيِّ اعْتِبَارًا بِأَعْدَادِ الْجَمْعِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: نِصْفُ الدِّيَةِ، اعْتِبَارًا بِأَنَّهُمَا أَحَدُ خَبَرَيْنِ، وَلَوْ رَجَعَ شُهُودُ الزِّنَا الْأَرْبَعَةُ، وَلَمْ يَرْجِعْ شَاهِدَا الْإِحْصَانِ ضَمِنُوا. وَفِي قَدْرِ مَا يَلْزَمُهُمْ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: جَمِيعُ الدِّيَةِ، إِذَا قِيلَ: إِنَّ شُهُودَ الْإِحْصَانِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَضْمَنُونَ ثُلُثَيِ الدِّيَةِ، إِذَا قِيلَ: إِنَّ شَاهِدَيِ الْإِحْصَانِ يَضْمَنَانِ الثُّلُثَ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: لَوْ رَجَعَ وَاحِدٌ مِنْ شُهُودِ الزِّنَا، وَوَاحِدٌ مِنْ شُهُودِ الْإِحْصَانِ، فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ عَلَى شَاهِدِ الزِّنَا رُبُعَ الدِّيَةِ، وَلَا شَيْءَ عَلَى شَاهِدَيِ الْإِحْصَانِ، إِذَا قِيلَ بِخُرُوجِهِمْ عَنِ الضَّمَانِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ عَلَى شَاهِدِ الزِّنَا سُدُسُ الدِّيَةِ، وَعَلَى شَاهِدِ الْإِحْصَانِ سُدُسُ الدِّيَةِ، إِذَا اعْتُبِرَ عَدَدُ الْجَمِيعِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ عَلَى شَاهِدِ الزِّنَا ثُمُنَ الدِّيَةِ، وَعَلَى شَاهِدِ الْإِحْصَانِ رُبُعُ الدِّيَةِ، إِذَا اعْتُبِرَ كُلُّ خَبَرٍ.
فصل: وَلَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَأَنْكَرَ الْإِحْصَانَ وَكَانَ لَهُ زَوْجَةً لَهُ مِنْهَا وَلَدٌ، لَمْ يَثْبُتْ بِهِ إِحْصَانُهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَثْبُتُ إِحْصَانُهُ بِوَلَدٍ مِنْ زَوْجَتِهِ: احْتِجَاجًا بِأَنَّ لُحُوقَ الْوَلَدِ بِهِ إِنَّمَا يَكُونُ لِإِجْرَاءِ حُكْمِ الْوَطْءِ عَلَيْهِ، وَإِذَا جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْوَطْءِ فِي لُحُوقِهِ جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْوَطْءِ فِي إِحْصَانِهِ وَكَمَالِ الْمَهْرِ بِهِ. وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ وَلَدَ الزَّوْجَةِ يَلْحَقُ بِالْإِمْكَانِ: لِأَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبَهَاتِ، وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ وَطِئَهَا دُونَ الْفَرْجِ، فَاسْتَدْخَلَتْ مَنِيَّهُ فَلَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ، وَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ الْحَصَانَةُ. فَأَمَّا كَمَالُ الْمَهْرِ بِلُحُوقِ الْوَلَدِ فَفِيهِ قَوْلَان:
أحدهما: لَا يُكْمَلُ كَمَا لَا تَثْبُتُ الْحَصَانَةُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَكْمُلُ الْمَهْرُ وَإِنْ لَمْ تَثْبُتِ الْحَصَانَةُ: لِأَنَّ الشُّبْهَةَ تُدْرَأُ بِهَا الْحُدُودُ دُونَ الْحُقُوقِ.
مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَوْ شَهِدَ عَلَيْهَا بِالزِّنَا أَرْبَعَةٌ، وَشَهِدَ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ عُدُولٍ أَنَّهَا عَذْرَاءُ فَلَا حَدَّ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ: لِأَنَّ بَقَاءَ الْعُذْرَةِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِعَدَمِ الزِّنَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَعَوْدِ الْبَكَارَةِ بَعْدَ الزِّنَا، فَلَمَّا احْتُمِلَ الْأَمْرَيْنِ سَقَطَ الْحَدُّ عَنْهَا: لِأَنَّ الْحَدَّ يُدْرَأُ بِالشُّبْهَةِ، وَلَا يَجِبُ مَعَ الِاحْتِمَالِ. وَأَمَّا الشُّهُودُ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِمْ: لِأَنَّ بَقَاءَ الْعُذْرَةِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَعَوْدِهَا بَعْدَ الزِّنَا فَيَكُونُوا صَادِقِينَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِعَدَمِ الزِّنَا فَيَكُونُوا كَاذِبِينَ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِمْ وَهُمْ عَلَى الْعَدَالَةِ. فَلَمْ يَجِبْ أَنْ يُجَرَّحُوا بِالشَّكِّ، وَجَنْبُ الْمُؤْمِنِ حِمًى فَلَمْ يَجِبْ أَنْ يُحَدَّ بِالشُّبْهَةِ. وَلَوْ بَانَ بَعْدَ الشَّهَادَةِ عَلَيْهَا بِالزِّنَا أَنَّهَا رَتْقَاءُ أَوْ قَرْنَاءُ نُظِرَ: فَإِنْ كَانَ الْقَرْنُ وَالرَّتْقُ يَمْنَعُ مِنْ إِيلَاجِ الْحَشَفَةِ فِي الْفَرْجِ لَمْ تُحَدَّ كَالْعُذْرَةِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَمْنَعُ مِنْ إِيلَاجِهَا فِي الْفَرْجِ حَدَثٌ بِخِلَافِ الْعُذْرَةِ، ثُمَّ تَكُونُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ- وَإِنْ سَقَطَ الْحَدُّ- مُسْقِطَةً لِعِفَّتِهَا، فَإِنْ قَذَفَهَا قَاذِفٌ لَمْ يُحَدَّ لِكَمَالِ الشَّهَادَةِ بِالزِّنَا وَسُقُوطِ الْحَدِّ بِالشُّبْهَةِ.